هذا موضوع "لبش" لذا رجاء قراءته لآخره دون انطباعات مسبقة، إن اتفقنا فخير وبركة، أما إذا اختفلنا فعلنا ذلك دون "دبش" و"طوب".
أيّ مسلم -وكاتب هذه السطور منهم كما هو واضح من اسمه- يعرف أن أكل لحوم الخنازير محرم في الدين الإسلامي، وذلك بأمر إلهي مباشر حسبما ورد في الآية 173 من سورة البقرة نصا: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، ولأن تربية أغلبنا تكون متحفظة دون أن يعني ذلك بالضرورة كونها دينية، فلقد كبر معظمنا وهو يحمل بداخله رفضا قاطعا للخنزير باعتباره كائنا نهى الله سبحانه وتعالى عن أكل لحمه، ثم ظهرت الاجتهادات التي تحاول الربط بين الأمر الإلهي -الذي يجب تنفيذه دون جدال- وبين الأسباب العلمية لذلك، فكان القول بأن هناك 450 مرضا قد يسببه أكل لحم الخنزير، ثم كان القول أيضا بأن الخنزير به صفات "خسيسة" فهو غير غيور على أنثاه، ويعاشر جنسيا أي أنثى تقابله في الطريق، وأن بعض هذه الصفات قد تنتقل لآكله!
تدريجيا تحول النفور من الخنازير إلى النفور من آكلي الخنازير، وإذا كان الغربيون يأكلون لحوم الخنازير على بُعد آلاف الكيلومترات منا، فلابد وأن نظرة النفور هذه لا تصلهم، وهكذا كانت نظرة الاشمئزاز والنفور هذه من نصيب من؟ أي نعم.. أقباط مصر.
مع انتشار الرعب مما عرف بـ"إنفلونزا الخنازير" -الذي تغير اسمها إلى إنفلونزا A بالمناسبة- تحولت نظرة الاشمئزاز تلك إلى مستوى آخر، مستوى يحمل معنى أخطر "أنتم السبب في الوباء الذي قد يقضي علينا.. اللعنة!"، فيما لو تعاملنا بنفس المنطق لصح أن يكون المسلمون أنفسهم مشاركين وبنسبة كبيرة في انتشار فيروس إنفلونزا الطيور الذي قتل حتى الآن عددا أكبر مما قتله فيروس إنفلونزا الخنازير.
الشاهد في الموضوع أن هذه النظرة وهذا الاتهام يأتي لأننا غالبا ما نتصور أنفسنا "مركز الكون"، وأن كل ما حولنا ذرات وهباء وثقوب سوداء لا قيمة لها، وأن "الآخرين المختلفين عنا" يعيشون هكذا دون تفكير أو قواعد تحكم حياتهم، حتى لو كانت هذه القواعد غير منطقية أو لا تتناسب مع معتقداتنا وطريقة تفكيرنا.
وعليه كان يجب على كل من هو مشمئز من أقباط مصر؛ لأنهم يأكلون الخنازير أن يسأل نفسه أولا: ولماذا يأكل الأقباط الخنازير من أصله؟ أما لماذا يتعب نفسه ويسأل فالأسباب كثيرة.. أولا مجرد المعرفة نفسها يكفي لأننا -لو مازلت تتذكر- أمة "اقرأ" وليس أمة "اكره"، ثانيا لأن الأقباط ليسوا شعبا غريبا يعيش على بعد آلاف الكيلومترات وإنما هم مصريون مثلي ومثلك بالضبط، وبالتالي من المهم معرفة بعض من عاداتهم حتى تتفهمها أولا وحتى تراعي مشاعرهم عندما تتحدث عنها ثانيا -هكذا علمنا الإسلام بالمناسبة.
نحن في الإسلام لدينا نص واضح وصريح بتحريم أكل لحوم الخنازير وهذا وحده سبب كافٍ للابتعاد عنها ليوم الدين، لكن ماذا عن الأقباط إذن؟!
"ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان" هذا ما ورد في إنجيل متى الإصحاح 15 وهذا ما يستند له الأقباط -في العالم وفي مصر تحديدا- في أكل لحم الخنازير، هم في ذلك يسيرون -حسب ما لديهم من نص- خلف ما أمرهم به السيد المسيح -عليه السلام- الذي لم يحرم عليهم أكل أي شيء معتبرا أن ما يخرج من فم الإنسان هو النجس، ويقصد به الكذب والغش والخداع ورغبات الشهوة والسرقة والزنا، وهذا مفهوم يتماشى مع دعوة السيد المسيح -عليه السلام- حتى حسب ما وصل إلينا نحن المسلمين الذين نختلف بالأساس مع المسيحيين في تفاصيل عقيدتهم، فما بالك بالمسيحيين أنفسهم؟!
ستقول منفعلا: "طب وأنا ليه أؤمن أصلا بحاجة في المسيحية؟"، وهو مين قال لك تؤمن؟! اختلف كما تشاء واستمر مقتنعا بعقيدتك ولا تتزحزح عنها أبدا ولا ملليمترا واحدا، كل ما هنالك فقط هو أن هذه السطور دعوة لأن "تتفهم أسباب اختلاف الآخر عنك"، تفهم دون أن تغير من قناعاتك، تفهم دون أن تكون مطالَبا بأكل لحوم الخنازير؛ لأنه لا يوجد في هذا الكون أصلا من يستطيع أن يطلب منك مخالفة أمر واضح وصريح من الله سبحانه وتعالى.
الأمر للأمانة لا يقف عند حدود المسلمين في مصر فحسب، كثير من أقباط مصر أيضا ينفرون من الآخر "المسلم" لمجرد أنه كذلك ويأتي بأفعال مغايرة، هذا نبعه أيضا ليس عدم الفهم فقط، وإنما فقدان الرغبة في معرفة "لماذا هذا الآخر مختلف عني"؟، أعرف صديقة قبطية مثقفة مهذبة قارئة نهما وتتمتع بعلاقة طيبة مع المسلمين، ومع هذا فوجئت بهت تتصور -تتصور إيه؟.. على يقين- بأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تزوج من أربعين سيدة!، أندهشت وأسألها: ومن قال لكى هذه المعلومة المغلوطة الكارثية؟، فتؤكد بأنه قول منتشر بين الأقباط في مصر، قول زور طبعا لا يزيد إلا من الفرقة بين المسلمين والمسيحيين، ويجعل كل طرف متحفزا ضد الآخر، فقط لمجرد أنه لا أحد فيهم يريد أن يقرأ عن الآخر ويتفهم -أكررها.. يتفهم دون أن يقتنع أو يغير ملته- أسباب الاختلاف.
عندما يتفهم المسلمون في مصر لماذا يأكل المسيحيون لحم الخنازير، وعندما يعرف أقباط مصر العدد الصحيح لزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، عندها -فقط- يمكن أن نتكلم عن "وحدة الهلال مع الصليب" ونخرج -معا- في المظاهرات نهتف:
"نموت نموت وتحيا مصر"، وليس "نعيش نعيش.. ويتحرق الآخر"!.