إذا كنت متابعا للأخبار والنشرات اليومية، أو قارئا للجرائد بشكل دائم، فحتما وصلت إليك أنباء البركان الثائر بإحدى قرى الصعيد، وأسفر عن مقتل الكثيرين، كحادثة طبيعية مروعة أودت بالقرية عن بكرة أبيها.......
وإذا لم تكن قد عرفت فها أنت قد عرفت مني، وهو لمصدر موثوق لو تعلم، الآن أستطيع أن أسألك عن شعورك فور سماع هذا الخبر المروع، ولن تزيد ردود فعلك عن هز الرأس يمينا وشمالا في رثاء، وقولك بأن بلدنا قد أصابها النحس، فلا تكاد تخرج من أزمة حتى تلاحقها الأخرى....
لكن بالطبع ولأنك مواطن عارف وفاهم وخبير بمجريات الأمور، والعارف لا يُعرّف ولا يُسأل عن مصدر معرفته، فستضيف لي المزيد من الأخبار والتفاصيل المتعلقة بالحادث، وربما ساعدك ذكاؤك الفذ في معرفة الأسباب ما وراء الحادث، وعلى الرغم من أنها كارثة طبيعية، إلا أن السبب قد يرجع لأمريكا المتربصة بنا وسخنت البركان علينا، أو أنها مؤامرة مُحكمة الأركان من قبل الحكومة لتقليل عدد الشعب، الذي زاد عن حده وعلا صوته، وكثرت طلباته فأزعجها عن تأدية مهامها الجسيمة......
هذا ما حدث بالفعل وأنا أشاهد أحد البرامج الفضائية، والتي تقوم فكرته على اشتغال الناس أو -مزاولتهم- حسب اللفظ المستخدم حاليا، فتسأل أسئلة غير منطقية بالمرة لتجد الردود السالفة.........
لا يقول أحد أنه لا يعرف، أو لم يسمع بمثل هذا الخبر، ويخجل لو قال أنه لا يتابع أو يشاهد سوى ماتشات الكورة أو المسلسلات، وآخر علاقته بالنت هي الشات وليست المواقع الإخبارية، ويلقي بالإجابات جزافا لعل وعسى.. وربك رب غلابة!!
وتتمادى المذيعة في إظهار مدى قدرة المواطن المصري على الابتكار، ابتكار حلول لأسئلة ليس لها أساس من الصحة، ويتمادى المواطن بدوره في إظهار أنه أبو العُرّيف الذي لا تخفى عليه خافية........
اختلف هذا البرنامج عن غيره في فكرته، التي أظهرت وبوضوح التعريف العلمي للجهل لدينا، أو بالأحرى ادّعاء المعرفة، البرامج الأخرى التي تتناول شكل أسئلة ثقافية للمواطن، لا تزيد سوى عن السؤال عن أنثى البعوض وقارة أتلانتس الغارقة وما الذي كلما أخذت منه زاد.... إلخ، وهي في مجملها وإن لم يُجِبْ عليها أحد فلا ضرر ولا ضرار، وليست مقياسا للثقافة، فأنثى البعوض والعنكبوت علمها عند ربها أولا، وعند أحد أساتذه كلية العلوم، قسم حشرات...
لكن المبدأ القائل: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من دهب.. دهب.. دهب" لم يعد معمولا به بسبب غلو أسعار الذهب وتعذر الوصول حتى إلى النحاس، فـ"اتكلموا اتكلموا" كما قال "منير".......
ولا تقتصر حالتنا بادّعاء المعرفة في مجرد برنامج تلفزيوني، ولكننا هكذا وفي مختلف المواقف، الواحد فينا هو مهندس وطبيب وسياسي ومذيع في نفس الوقت، لا نؤمن بالتخصص فنتحدث في كل شيء ولا شيء، أو ربما هو إحساسنا بعدم الاطمئنان، واحتمالية النصب من الطرف الثاني موضوعة في الاعتبار دوما.
ندَّعي التمسك والاستفادة ممن سبقونا، ولا يتعدى ذلك سوى إطلاق بعض الأمثال القديمة والحكم البالية، الصبر على الحاضر والشكوى الدائمة منه، نقاشاتنا وحواراتنا موجات متتالية من الصراخ المزعج، ضغطت المادة على أعصابنا فأنهكتنا، وتشبثنا بها فسحبت منا الحياة ببطء فعدنا أشباه كائنات حية ولكن خاوية.
هذا الجهل هو المحرك الأساسي لكل ما نعاني منه، لم يعد أحد فينا يعلم شيئا عن التاريخ أو السياسة أو الاقتصاد أو..... إلخ، لا تعرف مدى أهمية أي قرار يصدر في حقك، اكتفيت بعدم المعرفة إما لأنك لا تريد أن تعلم ما يحدث فيك، والذي هو حتما ضدك، أو أنك قررت عدم الاستماع لعدم قدرتك على التغيير، اكتفينا بدور المستهلك والمتلقي، إلا من رحم ربي وأراد أن يصل لمرتبة الفهم، فربما سنحت الظروف وتوصل لمرتبة التنفيذ....
حتى تعاملاتنا اليومية والإنسانية، لم تعد تحتمل روحا منفتحة ومراعية للأمور، فصرنا لا نسمع أنفسنا أو حتى ما يقال لنا، صار الوصول للنقطة الالتقاء أمرا صعبا شديد الصعوبة......
فاختفت الصِّلات بين شباب هذا البلد الحائر، وكباره الأكثر حيرة، كلٌّ يتخبط في طريق منفصل يبحث عن نقطة أمل أو بقعة نور تلوح من بعيد، ومن يتحدثون للشباب لا يعلمون أنهم توقفوا عن الاستماع منذ فترة طويلة.....
ولك أن تدرك أن القراءة وحدها ليست الوسيلة الوحيدة التي ستخرجنا من غيابات الجب الذي نحيا به، ولكن عقولنا المنغلقة التي لا بد وأن تسعى للتفتح، آن الأوان لأن نسمع ونشاهد من حولنا، كيف كانوا وكيف أصبحوا وننتقل من مرحلة مصمصة الشفاه إلى التفكير العملي، فقط لو أدرك كل واحد منا أنه محرك حياته وصاحب التغيير الأول فيها لتبدلت الأمور واختلفت، وربما اختلفنا نحن أيضا....
أطلِقوا لعقولكم العنان، الحرية، وجِّههوا قنواتكم المستقبِلة إلى المعرفة. لا تتقيدوا بالأفكار القديمة. ما عفا عليه الزمن عفا. وليكن كل منا هو فيلسوف حياته. سيِّرْها كما تشاء حتى لو عاندتك الظروف. من كل سقوط ارتفاع، وبعد كل كبوة انتصار.........
لك أن تتوقع أن ما قيل لا يعدو مرحلة الأماني الطيبة والأحلام الوردية الجميلة، لكن دعك من هذا، هل حاولت قبلا؟ لا تتوقع الفشل قبل البدء، حتى المحاولة تستحق وجودها.........
وأخيرا هل سمعت بأن جمهورية مصر العربية قد انضمت لجمهورية شونبونجو لمزيد من توطيد الأواصر التليفونية، فصرنا جمهورية شونبونجو العربية المتحدة؟..
السؤال الآن، من هو رئيس تلك الجمهورية؟؟؟؟
:scratch: