كانت عقارب الساعة تتجه بمؤشرها إلى الواحدة بعد منتصف الليل مرحبة بحالة من ملل أقل ما توصف به أنها "بشعة" تملكتني فقادتني قدماي نحو الريموت كنترول (اللي هو جهاز التحكُّم عن بعد للأخوة بتوع اللغة العربية) ووجدتني أمام إحدى القنوات التي كانت تعرض فيلما عربيا يبرز موظفا بسيطا لا يجد قوت يومه وأطفاله يرتدون ملابس رثة وبيته تنتحر منه الفئران و"زهقان" من الدنيا وما فيها، المهم إن الموظف البسيط عُرض عليه رشوة -هكذا كان مسماها في وقت إنتاج هذا الفيلم- ولكن الغريب في الأمر أنها كانت مُحرمة وتعتبر خطأ أخلاقيا فظيعا، المهم تغير لون وجه الموظف احمرارا واستغل الحنجرة الديناصورية التي منحها الله إياه وقال صارخا في الراشي: "إنت أكيد اتجننت.. إنت عايز تنال من شرفي علشان أقبل هذه الخسة والندالة"... مش عارف يا أخي كنت هاموت من الضحك نتيجة تصرفه مع إن المشهد ما يستاهلش الضحك خالص بس يمكن يكون جالي حموضة من الموقف فقلبت بضحك. أغلقت التلفزيون وتذكرت معركتي الكبرى غدا مع إحدى الهيئات الحكومية من أجل نقل ابنتي إلى مدرسة أخرى والسبب: المدام مش عجباها المدرسة، كده وخلاص... حاولت أتناقش معاها ولكني تراجعت بعدما استشعرت منها بنبرات غدر فقررت التنازل عن رأيي حقنا لدمائي، وحيث إن آخر خناقة بيني وبينها أسفرت عن تشوهات من الدرجة الثانية في أعلى كاحلي الأيمن بخلاف تورم لابأس به في فكي.
مش عاوز أطول عليكم.. قررت إني "أتخمد" استعدادا لهذه المهمة الشاقة، استيقظت في الصباح الباكر على صراخ زوجتي التقليدي معلنا كديك الصباح عن إشراق يوم جديد مليء بالحب والتفاؤل فارتديت ملابسي بسرعة فائقة كي أنجز مشواري. وقفت على محطة الأتوبيس -بلاش تفهموني غلط أنا مش فدائي علشان أركب الأتوبيس لأن ده درب من دروب المستحيل أنا بس كنت مستني الميكروباص والحمد الله لقيته، المهم وصلت في الميعاد وعلى غير العادة دون مهانة تُذكَر وبعمودي الفقري سالما فترجّلت من الميكروباص شاكرا وزير النقل على التسهيلات الرائعة التي يقدمها للمواطنين... دخلت مبنىً قديما جدا أحسست من الوهلة الأولى أنه مكان أثرى يتبع وزارة الأثار لكني حينما دققت النظر في اللوحة الخشبيه المملوءة ببقايا البياض -الذي يكاد يخفي ملامح الطلاسم المكتوبة على اللوحة- تأكدت من أني أمام إحدى المصالح الحكومية التابعة لوزاره التربية والتعليم؛ وعندما دخلت إلى المبنى وجدت شخصا "غلبان" أطلق عليه خطأ "رجل أمن" فسألته عن الأستاذ "أبو العطايا عقدة" المسئول عن نقل ابنتي فلم يجاوبني فكررت عليه السؤال قبل أن يلوح بذراعه بقرف قائلا: اطلع الدور الثاني واسال هناك، فلم أنتبه إلى أسلوبه المنمق ولا إلى ابتسامته التي تكسو وجهه ولا ضحكته التي يقابل بها المترددين على المصلحة، وصعدت إلى الدور الثاني فوجدت مكتبا أشبه بـ"غيِّة الحمام" ونقرت على الباب ثلاث نقرات بالعدد... ظهر لي رجل بشوش الوجه جميل الملامح تشعر من أول وهلة أنه أخوك أو أبوك أو خالك -مش عارف اشمعنى الخال- فقد بدا لي إنسانا يكسو وجهه محبةٌ وتسامحٌ غيرُ متناهيان، فسألني برفق: أي خدمة يا أستاذ؟، أحسست أن الدنيا ليست كلها مراتي أو سواق الميكروباص أو رجل الأمن، فهناك إناس مختلفون طيبون، عرضت عليه مشكلتي باقتضاب
فجاوبني بطيب وتسامح لا يوصفان: - عينيّ يا أستاذ تحت أمرك.
ثم انتظر بضع دقائق ناظرا إليّ دون أن ينطق بكلمة واحدة، وأنا مش فاهم هو مستني إيه، من جديد نظر لي قائلا: - أنا تحت أمرك يا أستاذ
بينما أنا مازلت ساهما –ما تعرفش يا أخي الغباء هب عليّ مش فاهم أو عامل مش فاهم.
ضاق الرجل بي ذرعا وقال: - يا بيه فين العطية بتاعتي؟
ما فهمتش برضه، فصرخ الرجل في وجهي: - فين الحلاوة يا بييييه؟
برضه مصمم على عدم الفهم؛ فقال: - الشااااااي... ففهمت أخيرا.
لا أعرف لماذا "نقحت عليّ" حقوقي الدستورية كمواطن مصري من حقه أن يقضي طلبه "ببلاش" فرددت عليه في عبارات ثابتة: - إنت ليك الرسوم اللي الحكومة نصت عليها.
وفي هذه اللحظة شاب وجه هذا الرجل الأبيض الجميل السواد وقطب جبينه واستنشق نفسا عميقا وقال: - آااااه هو إنت منهم! - يا بيه بنتك من سكان الجيزة ما ينفعش ننقلها في مدرسة في القاهرة كمان منظرك كده ما ينفعش بنته تتنقل.
فسألته في دهشة: - منظري.. - طيب وإنت مالك بمنظري
فاستدرك قائلا: - إنت هتقرفني ع الصبح.. يا عم غور بقى، ده إيه النهار الإسود ده.
وقتها فقط أدركت معنى كلمة الشاي، وتيقنت أكثر من معنى اسمه: "أبو العطايا عقدة".. لو فتّحت دماغك معاه بقى أبو العطايا لكن لو قفلتها معاه هتبقى عقدة